ذات صيف بعيد جداً , قبل خمسين سنة ونيف , كنا صغاراً .. وكان ذلك الصيف مشهوداً , فقد ترك في ذاكرتنا صفحة لا تنسى كان الحصادون ينهالون على سنابل القمح حصاداً , وثمة أغان شجية , تأتي من هنا وهناك , تحمل مشاعر الفرح والشوق والحزن والأمل …!!
فالحناجر تنطلق بغناء يعبر عن مشاعر صافية صفاء الليل في سماء القرى حيث القمر يتربع على عرشه والنجوم حوله…!!
الصغار قد لايفهمون ما يجري تماماً , لكنهم , بعد حين يفهمون ولهم مشاعر وأحاسيس , ثمة مذياع يبث موسيقا وأغان وطنية , مع الكثير من مجموعات الحصادين وقد جاؤوا به , ليس من أجل أغاني سميرة توفيق التي كانت شهيرة تلك الأيام وليس من أجل صباح .. ولكن من أجل متابعة وقائع العدوان – الحرب على بلدنا .. التي انتهت بنكسة حزيران ..!!
ينطلق صوت المذيع « صرح ناطق عسكري بمايلي ….»
يتوقف الحصادون عن العمل .. ينتهي الناطق من بيانه تنطلق الحناجر بالدعاء لسورية وجيشها ..
للصيف حضوره الخاص , بين الفصول , فهو أولاً فصل العطلة المدرسية .. والصيف له حضوره في ذكريات الطفولة , ليالي الصيف المقمرة .. السهرة على سطح المنزل والنوم على هذا السطح .. ولابد من عد النجوم .. نتبارى من يعد أكثر ..!! أنا وصلت سبعين .. أنا وصلت الخمسين .. وينطلق صوت الأم : « لاتعد النجوم .. كي لا تظهر الثآليل في أيديكم ..!!»
والصيف يعني ولا يزال , مواسم العنب والتين .. ويعني بيادر الخير التي تضيق بأكوام الحنطة والشعير والعدس ..!! ويعني
, أيضاً , الحذر من أفعى هنا تظهر , أو ثعبان هناك .. ولا تزال « نجاح « الطفلة الجميلة في الذاكرة , فقد لسعتها أفعى سامة .. فقضت عليها .. لا نزال نتذكر بكاء أهلها .. وموكب جنازتها .. وأن المعلم في بداية العام الدراسي نعاها أمام التلاميذ , فقد كانت تلميذة مجتهدة .
والصيف , يرتبط في ذاكرتنا بحفلات الغجر حين صدور نتائج « الكفاءة « أي الاعدادية و « البكالوريا « أي الثانوية , وكانوا – الغجر – ينصبون خيامهم في طرف القرية ويسألون عن بيوت الطلبة الناجحين .. فيفاجئون أهل الطالب الناجح بالغناء والمزامير وقرع الطبل أمام منزلهم و « لاهجر قصرك وارجع بيت الشعر ..» و « وين على رام الله .. حبي يا مسافر وين على رام الله ..» وفرقة نوفا الغجرية لها حضورها في الحفلات وقد تمتد إقامة الغجر أسبوعاً أو أكثر في القرية قبل أن يرحلوا الى قرية أخرى .. وهكذا , وهؤلاء يمدون القرية بالغرابيل المشغولة بدقة وبعضهم كان يقوم مقام طبيب الأسنان .. ويلبسون الأسنان بالذهب ..!! وبعضهم يعمل في تبيض الأواني المنزلية النحاسية ..!!
وفي الصيف تكون مواسم الأعراس والحكايات , فلان يريد فلانة لكنها لا تبادله الحب .. وفلانة أهلها رفضوا تزويجها لفلان لخلاف على المهر وما شابه ذلك وفلانة جاءها خاطب راغب من قرية بعيدة .. لكن أهلها رفضوه لأنهم لا يريدون لابنتهم أن تصير « غريبة « في قرية أخرى ..!!
وقد اجتمع شباب عائلتها وقالوا لها « اختاري واحداً منا .. نحن أولى بك من هذا الغريب ..»
حكايات اندثرت وصارت ذكريات .
لكن هذا الصيف له بصمته .. فالانتصارات العظيمة لجيشنا العربي السوري البطل سوف تسجل في سجل الخلود .. في تاريخ وطننا الغالي .
عيسى إسماعيل