في كل مرة كنت فيها ألتقي صديقي ” محسن الفحل ” كان يسرد على مسمعي بعض الأحداث التي عاشها وبعضها والحق يقال فيه غرابة ويكاد لا يصدق مثل قصة الأفعى التي وجدها محسن ممدة بجانبه في الفراش عندما كان هو وأفراد أسرته ينامون في الصيف على سطح البيت الترابي في القرية .
من ناحيتي شعرت بالرعب وهو يحكي تفاصيل هذه الحادثة
قلت له 🙁 أفعى .. وتنام بجانبك ؟!!)
يهز رأسه ويقسم الأيمان المغلظة إنها أفعى طولها لا يقل عن متر ..!!وكان عليّ أن أصدقه فهو اشتهر بأنه صادق وحكيم ودود ومخلص لأصدقائه وعمله .
ولأنه أراد أن يثير فضولي توقف عن متابعة الحكاية وساد صمت قصير كنت خلاله أتخيل مشهد الأفعى الممدة قرب محسن وهو يغط في نوم عميق ثم يكتشفها فجأة!
أقول له بشيء من الغضب :
(وماذا بعد ؟!ماالذي حصل للأفعى ولك ؟!)
قال ببرودة ، وبغير اكتراث :
(لم يحصل شيء مهم .. تحركت بهدوء، ومسكت ذيلها ، ورفعتها بسرعة وقوة ورحت ألوح بها بشكل دائري ثم ألقيتها بقوة على الأرض، تتخبط ثم انهلت عليها ضرباً بعصا كبيرة، كنت أضعها بجانبي عندما أنام تحسباً لمثل هذا الأمر وعندما أرديتها قذفت بها بعيداً في دغلة قرب بيتنا .
ومحسن هذا صديق وفي تعرفت عليه عندما جاء وهو صبي من القرية ليقيم عند أقاربه في حارتنا في المدينة ، إذ لم تكن في القرية مدرسة إعدادية تلك الأيام .
أذكر جيداً ،أن المعلم أجلسه بجانبي ولا أخفي أنني شعرت بالارتياح لهذا الوافد الجديد : شعره طويل مجعد وثيابه رثة وكانت لهجته غريبة علينا نحن أبناء المدينة.
كان الودّ مفقوداً بيني وبينه وبين التلاميذ وبينه وازداد غيظنا وحسدنا له عندما كان المعلم يثني عليه فهو الأول في الصف ، ويطلب منا أن نصفق له عندما يعرف الجواب لسؤال لم يعرفه أحد غيره !!
نلتقي بعد دوام المدرسة لنلعب كرة القدم في الشارع الذي لم تكن فيه سيارة واحدة متوقفة على عكس اليوم حيث السيارات مصفوفة فيه من الجانبين !!اقترح بعض الأولاد يومها أن نكمن لمحسن عند زاوية الشارع في أثناء عودتنا من المدرسة ونشبعه ضرباً وهذا ما حصل .
لم يسألنا أحد عما فعلناه لا المعلم ولا ذوو محسن وقلنا إن محسناً لم يجرؤ على الشكوى ولا بأس أن نكرر ضربة في مرات قادمة
بعد يومين أو ثلاثة كنا نلعب كالعادة في الشارع وعددنا أربعة عندما ظهر ” محسن”فجأة بيننا وهو يضع يديه خلف ظهره اقتربنا منه ونحن نكيل له عبارات الشتائم والسخرية ولكنه لم يتفوه بكلمة وفجأة انهال بسوطه علينا ضرباً على ظهورنا وأرجلنا ، جعلنا نصرخ من الألم ونركض كل إلى بيته .
لم يجرؤ أحد منا على إخبار أهله بما جرى .ومنذ ذلك اليوم لم نعد نهزأ من محسن ورحنا نتقرب منه وعاملناه بحياد مطلق.
هذه الذكريات وغيرها كانت موضوع حديثي مع محسن الذي التقيته مصادفة عندما دخلت مكتبه لأوقع بعض الأوراق التقت عيناي بعينيه ،فنهض بسرعة وتقدم نحوي وهو يقول 🙁 أنت محمود )وأقول له أنت محسن .. عفواً سيادة العميد محسن..!!) كان رئيساً لقسم الشرطة في الحي . صرنا صديقين نتبادل الزيارات
(أرجوك حدثني عن كل شيء ولا تذكر لي قصة الأفعى..!!)أقول له ، فيضحك ويجيب :(هناك اليوم من هم أخطر من الأفاعي بكثير !!..لكن تذكر دائماً يا محمود أننا في هذا الوطن لانخشى شيئاً ولا أحداً.. رؤوسنا مرفوعة وهؤلاء الأنذال المجرمون المسلحون مصيرهم جهنم..اشرب الشاي يا محمود قبل أن يصبح بارداً…!!)وأردف بعد أسابيع لن يبقى أحد منهم في هذه المدينة التي استباحوا بعض أحيائها.. سنقتل من نقتل ويفر الباقون..!!) كنت أنا محمود مندهشاً وفي غاية النشوة والكبرياء عندما شاهدت المسلحين في الباصات الخضر أذلاء هاربين.. ورحت أردد (حياك الله يا محسن ..حصل ماقلته لي …هاهم بكل قذاراتهم ذاهبون إلى جهنم ..!!) غير أن محسن لم يعد كما كان فبعدما داهم على رأس مجموعة من المقاتلين الأشداء أوكاراً للمسلحين وقضى على الكثيرين منهم أصابته شظية بترت يده اليمنى لكنه لا يزال يؤكد أنه يستطيع أن يستخدم يده اليسرى ويصيب الهدف ..ولانزال نتحدث عن الماضي والحاضر.. والمستقبل الأجمل .
عيسى إسماعيل