في أوائل خمسينيات القرن الماضي، بدأ ينشأ حيّ ” النّزهة” في حمص حيث أسكن، وكانت البداية بيوتاً من ” اللّبْن” متفرّقة في بريّة كانت مخصّصّة لزراعة القمح والشعير بالدرجة الأولى، مع زراعات أخرى قليلة، و جنوبيّ هذا الحيّ لم يكن فيه أثر للعمران، بل هو حقول خضراء في الربيع يخرج أهل المدينة إليها زرافات ووحداناً للتنزّه، فتراهم منتشرين في أماكن متعدّدة، يأكلون، ويمرحون.
ذات يوم، وأستطيع تقدير المكان، على وجه التقريب، بالقرب من مشفى الزعيم حاليّاً كان شاب يمشي مع خطيبته، وكان هذا نادراً ما يحصل، فالشاب ما يكاد يرى خطيبته إلاّ يوم الزفاف ، ولكنّ بعض الأسر ، كانت تتسامح فيما لا يخلّ بقواعد الشرف المتعارف عليها،
شاهد ثلاثة رجال كانوا يجلسون في وهدة صغيرة،.. شاهدوا الشاب والصبيّة، وبسرعة شيطان الوسوسة نظر بعضهم إلى بعض فنهضوا، وقصدوا الشابين الخطيبين، وانقضّ اثنان على الشاب فأمسك به من الخلف أحدهما، وضغط الآخر بشدة ربطة عنقه فأُغميَ على الخطيب، بينما كان الثالث يتعارك مع الصبيّة، وقد قاومت مقاومةجبّارة، فلم يستطع الثلاثة النّيل منها، وكان صوتها يرتفع مستغيثا، فاندفع بعض المتنزّهين باتجاههم، فولّى الثلاثة هاربين، ونُضح وجه الشاب بالماء فصحا، وأُخبِرت الشرطة بما جرى، وسُجّل ضبط ضدّ مجهولين، وضجّت المدينة بذلك الخبر، وترك ذلك من الاستياء والاستنكار ما ترك.
مضى على الحادثة سنتان، وقد نسيها الناس، وذات يوم دُعيت تلك الصبيّة إلى خطبة إحدى صديقاتها، ولم يكن يفصل بين الرجال والنساء إلاّ جدار من قماش، وفجأة سمعتْ تلك الصبيّة صوت واحد من الرجال الذين حاولوا الاعتداء عليها، فتركت الحفل، وذهبت إلى الشرطة، وقصّت قصّتها، فجاء معها رقيب وشرطيّان، واوقفوا جميع الرجال، وطُلِب من الحاضرين أن ينطق باسمه الثلاثيّ، وما أن سمعتْ صوت غريمها حتى قالت :” هذا هو”، وأخذوه واعترف على رفيقيه، ونال الجميع جزاءهم.
هذه الحادثة حين استعدْتها أوقفتْني عند هويّة الصوت، فالصّوت هويّة كاملة، وأرجّح أنّ العديد منكم قد قرؤوا، أو سمعوا عن ابتكار أجهزة الكترونية، لخزانات تحتوي ما يجب أن يُخبّأ، أو يُصان، لا تُفتَح إلاّ إذا سمعتْ صوت صاحبها، وانطبق هذا على البَصمة الموجودة في الابهام، كما انطبق، فيما أذكر، على حدقة العين، فسبحان المُبدع فيما أبدع،
الذين حُرموا من نعمة البصر يعتمدون على آذانهم لالتقاط صوت المتكلّم ليعرفوه من خلالها، وهذا، استحضر الشاعر الأعمى بشار بن بُرْد، وبيتَه الشهير:
يا قوم أذْني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ
والأذْنُ تَعشق قبلَ العين أحيانا
أمّا سقراط فيقول:” تكلّم كي أراك”
وهذه الأذن، وهي غير بصيرة، هي التي كانت تشدّ أعداداً هائلة من العرب، قبل انتشار التلفزيون، إلى الإذاعة لسماع وصلة، أو حفلة غناء كانت تحييها السيدة أمّ كلثوم كلّ شهر، فينصرف المستمعون إليها، متتبعّين ذلك الأداء الباهر، وتلك الألحان العذبة، من طنجة إلى بغداد.
أذكر أنّني دُعيتُ إلى نشاط شعريّ في المركز الثقافي في سلميّة، وأقدّر أن ذلك كان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكان بين المدعوّين شاعر فاقد للبصر، نسيت اسمه، وجلّ الذي لا ينسى، فاقتربتُ منه وسلّمت عليه لافظاً اسمه، ولم يكن سمع صوتي من قبل إلاّ قبل ما يقارب العشر سنوات، وفور أخذي ليده، وسماع صوتي قال:” أهلا أستاذ عبد الكريم”.
الصوت هويّة، وقد تتشابه الأصوات، ولكنّها لا تتطابق، بعضها جذّاب، بل شديد الجاذبيّة حتى ليكاد يحبّبك بصاحبه، فما تكاد ترى فيه إلاّ حنيّة الصوت وعذوبته، وأرجّح أنّ هذه الخاصيّة هي التي جعلت أهلنا في الأرياف قديما، وفي بعض المدن، وفي أقطار عربيّة متعدّدة، .. جعلتهم يسمّون ” الصوت” باسم ” الحسّ”، فيقولون عن صاحب الصوت الجميل ” حسّو جميل”، أي ” حسّه جميل”، وهذا ما يجعل بعض الشعراء الذين يصعدون المنابر لإلقاء قصائدهم، يبدو بعضهم أكثر جاذبيّة للجمهور من خلال صوته….
عبد الكريم النّاعم