في أواخر سنوات الستينات من القرن الماضي، دعاني الأديب المتعدّد المواهب المرحوم ممدوح عدوان لحضور مناسبة في « دير ماما»، وكان بيننا من الأواصر المتينة مايجعل الآخر يتصرّف في بيت الآخر وكأنّه في بيته، وكنتُ آنذاك ماأن أُدعى إلى مناسبة لطيفة حتى أستجيب، بل في كثير من المناسبات كنتُ أخرج من المدرسة إلى جلسة لطيفة، وقد أغيب يوما أو يومين ولا يعلم أحد من أهل بيتي عنّي أيّ شيء، وقد اعتادوا على ذلك، أو قُل أنّي عودّتهم عليه، ولم تكن هواتف الموبايل معروفة، بل ووجود الهاتف العاديّ لم يكن متيسّرا في تلك الأيام، إلاّ نادراً.
كان الفصل صيفاً، والمكان « دير ماما» وانعقدت حلقة الدّبكة، والازدحام شديد، ونافخ ( القصْبة- الشاخولة» شاب طويل أشقر، خصره يُشبه خصور البنات الضامرات، ينفخ في (القصْبة)، ويقلّبها، ويلوّي جسده بفنيّة مدهشة، حتى ليمكن القول إنّه وحده يشكّل لوحة، وشربنا ماشربنا، ودبكنا، وغنينا، وعبّ ممدوح كمية كبيرة من العرَق البلديّ حين اقترب منه عمّ له، كانت بينهما جفوة، فاحتضنه العمّ بحنان، وضمّه إلى صدره، فتفجّرت أحاسيس ومشاعر استدعت ذلك الكمّ من الكؤوس.
الفرح يكاد يطفر من جدران البيوت كما يُشرق من العيون، صعدنا إلى علّيّة لنرتاح قليلا، ومَن دعانا من الرجال « النّشامى» في تلك البقعة، وكان المساء قد بدأ يمدّ عباءته ، وفي الجبال، حيث الخضرة، تبدو الألوان بحلّة خاصة ، أراد مَن دعانا إشعال « اللّوكس»، فأشعله وانطفأ، فتناول «قنينة» كبيرة مملوءة بمادّة (السبيرتو) وسكب منها، فالتهب اللّوكس، والتهبت «القنينة « في يده، وفوجئ بذلك، فبدأ يخضّ «القنّينة» في كلّ اتجاه، بدلا من إلقائها بعيداً، فتطايرت منها كراتُ من اللهب، و.. فجأة تسلّمتْني نار لاتوصف حرارتها ، تلبّست رأسي ووجهي، ولشدّة الحرارة لم أعد أدرك ماعليّ فعله، واتّجهت نحو نافذة في الجدار أريد أن أُلقي بنفسي منها، ففوجئت بمن أخذ شيئا وقع تحت يده، ولفّ رأسي به وحنى عليّ، فسكن اللهب، ولم يسكن الألم الغضب، فقلت مهدّداً :» مَن هذا الحيوان الذي فعل هذه الفعلة»؟ فأجابني أحد الحضور:» لقد خرج هارباً».
كان لابدّ من مراجعة طبيب، وأقرب طبيب في مصياف، ركبنا سيارة أنا وممدوح المُتَعْتَع، وآخران، وقد حاولتُ جهدي أن أُثنيه عن سفره معنا، فلم أنجح، كان إحساسه بالمسؤوليّة أكبر، طرقنا عيادة طبيبة في مصياف، باردة الطبع والحركة، وبعد أنْ وضعت بعض المراهم، سألتها: « هل سيترك آثارا في وجهي»، فابتسمت بغباء وقالت:» وهلْ انت بنت حتى تخاف على حالك»؟،
عدتُ إلى حمص، وممدوح على حاله، حين دخلت مدخل دارنا فوجئتْ ابنتي الكبيرة بمنظر وجهي، فأرادت أن تصرخ فقلت لها :» لاتخافي ، الأمر عاديّ»، ونمتُ على ألم في وجهي وفي إحدى عينيّ.
في اليوم الثاني اتّصلت بالمرحوم الدكتور سمير ضاهر، فزارني وألزمني ببعض المراهم، ومنعني من الخروج في الشمس لمدّة أسبوع ، وقال لي : الله ستر، لو استمرّ اللهب ثانية أخرى لَأتلف قرنيّة العين».
الذي لفّ رأسي بشيء ما وأطفأ تلك النار كان الأديب المرحوم وديع اسمندر، قال لي :« كان اللهب صاعدا من رأسك ووجهك بعلوّ أكثر من متر».
بعد أكثر من أربعين سنة، حين توفّي وديع اسمندر ذهبت للتعزية في «اليازديّة» شرقيّ جبلة في تلك الجبال، وفي مبرّة التعزية، قال لي أحد أخوة وديع:» هنا فلان، ألا تريد السلام عليه»؟ قلت : وكيف :» لا»، فلان هذا كان ذلك « النّشميّ» الذي حدثت الحادثة في بيته، وبيده، حين اقترب، وهو الصبور الشجاع، أراد أن يفوه بالكلام فغلبتْه عبرة البكاء…
aaalnaem@gmail.com
عبد الكريم النّاعم