محافظة (حمص )درّة المحافظات السورية الأربع عشرة ،لا بل هي واسطة العقد الذي يربطها بالتراب السوري ،فوق أرضها هضاب للدهشة ،وتلال للمفاجآت ،وشجرة الثقافة فيها دائمة الخضرة على مدار السنة ،وفيها من مقومات الوحي والإلهام كما قال الشاعر :
ثلاثة تجلو عن القلب الحزن- الماء والخضرة والوجه الحسن.
والمرأة فيها قاموس للجمال والطهارة ولية عهد الحب ،وملكة جمال الروح ،والملفت انتشار حدائق الورود التي تحيط بكل منزل في أحياء حمص ،وأهلها معروفون بالكرم والتسامح والطيبة ،مع ذائقة اجتماعية مرحة ،وغيرة وطنية أصيلة .
لذلك كان من الطبيعي أن تنبت فوق مساكبها زنابق الشعر وياسمين النثر منذ أقدم العصور ولغاية الآن ،فنهر (العاصي)يرويها والسهول الخضراء تحتضنها ،والوجوه الحسنة تغذيها ،البداية مع الشاعر (أمين الجندي)1180هـ/1766م :
عهدي بها والعدل مُدَّ سرداقاً للأمن في أكناف ذاك النادي
عهدي بمسبحها النضير ومائها وعبير طيب هوائها المتهادي
أرض زكت فكأن طينة تربها عجنت بمسك أذفر ورياد
وترابها تبر وفي ..حصبائها درٌ بدا لمتاجرٍ ..ومهادي
إن هذا الشعر عشق صوفي لمدينته ،صورة لمحب حمصي مولهٍ بروعتها ،جالت نفسه في بوادي الحب الصادق ،فصورها وصاغها وترجمها بعبارات منظومة بفكر متوقد وقلب عامر ، مفتون بوداعة مدينته جارة العاصي ومنزل الأبطال .
ونصغي باهتمام إلى الشاعر (عبد الغني النابلسي )1050 هـ/1638 م
وبستان على العاصي السعيد بحمص ما عليه من مزيد
نزلنا تحت ظل الدوح ..منه فيالك ثم من ظلال مديد
تظل نوافح النسمات تهدي إلينا فيه من طيب حميد
وللعاصي هنالك بط كف عليه الموج كالدر النضيد
وله أيضاً:
حمص لمن أضحى بها جنة يدنو لديها الأمل القاصي
حل بها العاصي ألا فاعجبوا من جنة حل بها .. العاصي
وله أيضاً :
بي ظبي من حمص أهيف فاتني ربرب
طلبت تقبيل خده قال لا تقرب
يلسعك عقرب عذاري قلت ذا أغرب
ألسع وفي حمص قالوا طلسم العقرب
هذه المقوبسات للشاعر لآلئ النابلسي ! تشرب من خمرة الروح , هي أصداف قذفها نهر العاصي عند أقدامه , فاستخرج منها لآلئ تبهر الأنظار , فمن لم يشرب من مائه سيبقى ظمآناً , ومن لم يتسلق صخور نفسه يظل عند سفح العدم .
وللشاعر ( عبد الهادي الوفائي ) 1312 هـ /1894 م قصيدة يتغى بها بمحبوبته حمص , فيذكر منتزهاتها وعادات أهلها ومواسمهم على مدار السنة , بالإضافة الى التأريخ الحمصي المميز لأن ماذكره من معالم قد زال الآن
الله أكبر في حمص منتزه تخاله جنة من أمه اضطربا
ناهيك ميماسها المشهور جدوله ومرجه المحتوي من غادة وظبا
وقد سما منظراً من حيث أن به ناعورة لم تزل تشدو نوى وصبا
ما في الدنا روضة فيما تشابهها كلا ولا نرجس عما حوت وربا
أما الشاعر والأديب ( محي الدين الدرويش ) فقد كان متعبداً في هيكل جمالها , وأميرا في دولة روعتها ,, وذلك واضح من خلال الأبيات التالية :
ويامربع الميماس أنت كعهدنا
رفيف الحواشي ضاحك الوجه رافل
تخايل الحسن فيك معنى ومنظراً
وتاهت على الأكوان منك .. خمائل
عهدتك مغنى للصبابة والهوى
ألم تك للآرام فيك .. منازل
ألم تطلع الأقمار فيك سوافرا
ألم عليها من الدل المشوق مخايل
أما الشاعر المشهور ( نسيب عريضة ) 1888- 1946 م فهو قيس حمص وجميلها وكثيرها , فقد كان زنبقة فاح أريجها في أنوف البشر , جمع في بيادر قصائده عنها قمح الألق والإبداع , يحرق روحه بخوراً ويوقد أصابعه شموعاً , لقد كان قيثارة فضية الأوتار تردد أصداء نغماتها بين جدرانها , وذلك كما في قوله :
حمص العدية كلنا يهواك يا كعبة الأبطال إن ثراك
غمد لسيف الله في مثواك ولكم لنا من خشعة وسجود
يا حمص يا أم الحجار السود
قلبي يرى فيك المحاسن كلها وعلى هواك يدين بالتوحيد
في هيكل النجوى ومن تمجيد
وللشاعر (راتب الأتاسي ) 1923-1995 م نفثات قلب ، لوعه الشوق والحنين لمدينته الغالية (حمص ) فهو شديد الاعتزاز بشهامة أهلها وشجاعة شبابها وطيب اصلها ، فراح يستنشق ماتنشره مجامرها من عبق الفداء والإباء والتضحية لنسمعه يرتل :
ياحمص يابلد النوى والجود نادتك أجنحة الفداء فجودي
ماقام عرس في العروبة خالد إلا وجيدك فيه اجمل جيد
وللشاعر ( عمر اليافي ) 1759-1817م مساهمة رائعة في وصف نهر العاصي الذي فتن الناس بعذوبة مياهه ، التي أنارت التراب بخضرة رائعة ، فهو مبتسم كالصباح ، وعابس كالمساء ومعطاء كحاتم وخالد كالشمس يقول شاعرنا :
قد صفا كاللجين للعين يروي الحسن صاف كصفو قلب المحب
فهو شمس قد أشرق الروض منه أنجم الزهر قد توارت بقرب
وإليه خرت غصون الروابي حيثما كان للأصول ..المربي
كل عاص يلوذ في ذيلها الطاهر طوعاً لم يلق وصمة ذنب
وفي وصف نهر العاصي قصيدة عصماء للشاعر الشهيد (عزت الجندي )يقول فيها :
يا أيها العاصي الذي أمواهه كفت الورى شر الظما والجوع
هذا رحيقك منعش أرواحنا عجباً لشهد سال من ..ينبوع
وكم ذكرت على ضفافك مجدنا وكواكباً في حمص ذات سطوع
ويقول أيضاً :
يانيل سورية وبهجة شعبها من أي عهد سلت فيها كوثر
يامانحاً حمص الحياة ..رغيدة حمص بفضلك جنة تسبي الورى
اما الشاعر (ابراهيم فركوح) فيقف على اطلال نهر العاصي بعد ان
دمره التلوث بفعل الأقذار والنفايات الصناعية ومخلفات الصرف الصحي ، يقف راثياً له :
قد كنت فيما مضى ياعاصي منهلنا والآن صرت ياعاصي تجافينا
نحن الأولى شربوا الأكواب مترعة من مائك العذب في الأيام ماضينا
واليوم جئنا فلا ماء ولاشجر ولاعذارى ولامؤنس يغنينا
نزيه شاهين ضاحي