قصة قصيرة… الساعة تطول أكثر من دهر

لم يكن سالم السعيد يعرف كم مر عليه من الساعات كل ما يعرفه أن الظلام هبط فوقه ثلاث مرات و هو يقف على أنابيب المياه في منور الطابق الرابع و يسند ظهره على الجدار و يتحاشى أن ينظر إلى أسفل كي لا تزوغ عيناه و يسقط من هذا الارتفاع إلى أسفل السافلين .و لذلك كان يحدث نفسه: أحسدك أيها الحردون لأنك تستطيع أن تتسلق الجدار ، أغبطك أيها العصفور الدوري تطير و تعود لتأوي في شقوق الجدران.
قبل هذه الساعات التي طالت عليه أكثر من دهر كان كل شيء في مدينة عدرا العمالية عادياً ،الناس يذهبون إلى أعمالهم و يعودون يتبادلون الزيارات و يشربون المتة و الزوفا و المليسة و يشعرون بقلق قريب بعيد قرب و بعد مدينة دوما التي يسيطر عليها الإرهابيون لكن الحياة كانت تجري في مجراها و فجأة وقع ما هو أكبر من فاجعة و أعظم من كارثة، قطعان من الذئاب و الضباع هاجمت مدينة – عدرا العمالية – أغلقت مداخلها و ملأت شوارعها و ساحاتها جلبة غريبة بدأت،ضجيج غير معهود سمع .
كان سالم السعيد يقيم مع أبيه وأمه في الطابق الرابع .. أبوه طيار حربي متقاعد نال وسام بطل الجمهورية في حرب تشرين لإسقاطه خمس طائرات صهيونية و أمه معلمة متقاعدة تتسلى بشغل الإبرة « الكروشيه »و قراءة الكتب و المجلات ،أطل سالم من النافذة و ارتد عنها سريعاً يا ستار ما هذا ؟!
رجال طالت لحاهم إلى أسفل صدورهم يتأبطون البنادق الآلية و يشهرون سيوفا و سواطير و يتوزعون للدخول إلى مداخل العمارات
شعر سالم أن قلبه يكاد يخرج من صدره و ان وجهه قد أصبح شاحباً أكثر من لون – الحوراة التي كانت جدته تطرش بها جدران دارها في الضيعة .صرخ أبي – أمي تعالا سريعا و انظرا .. أطل الأب و الأم من النافذة بحذر كان أحفاد –محمد بن عبد الوهاب – بلحاهم الطويلة و سراويلهم التي تغطي قسماً منها .الدشداشات -القصيرة قد أخرجوا سكان الطوابق الأرضية و حشروهم في شارع أغلقوه من الطرفين
قال سالم : أبي – أمي ..ماذا نفعل ؟ بدا الأب عاجزا عن الكلام مثقلاً بتاريخه الناصع نسراً في سماء وطنه ،وبأوسمته وصوره المعلقة على الجدران وبدت الأم مختنقة بحسراتها ودموعها وخوفها على ولدها قبل نفسها ..
فهم سالم ابن السابعة عشرة من هذا الصمت المروع أن عليهم أن ينتظروا مصيرهم الذي لا مفر منه ،وكان خبط أحذيتهم على الأدراج قد بدأ يسمع مختلطاً بأبجديات غير واضحة ،ولهجات مختلفة .
سالم يعرف أن لدى أبيه مسدساً ، كان هدية من القائد العام للجيش والقوات المسلحة يوم نال وسام بطل الجمهورية ،لكن ماذا يستطيع أبوه أن يفعل بمسدسه في مواجهة هذه الذئاب والضباع ؟!
أحس سالم بالشفقة على أبيه الذي تصدى لطائرات –الفانتوم –والميراج –الصهيونية وأسقطها ،وهو اليوم قد يسقط برصاصة إرهابي شيشاني أو تركي أو سعودي …خبط عنيف على أبواب الشقق كان يقترب منه سريعاً ،فتح نافذة المطبخ على المنور الذي يتوسط الطوابق ،رأى أنابيب المياه الداخلة إلى شقق الطابق الرابع ،تدلى من النافذة ووقف على هذه الأنابيب ملصقاً ظهره بالجدار بعد أن أغلق النافذة .وما هي إلا لحظات قليلة حتى سمع خبطاً على باب شقتهم ،وسمع صوت باب يهوي على الأرض ورصاصة مسدس تنطلق تتلوها رشقات رشاشة امتزجت بصرخات غضب غير مفهومة وآهات حسرة مفهومة !؟
ازداد سالم التصاقاً بالجدار حتى كاد يدخل فيه ،وازداد تشبث أقدامه بأنابيب المياه حتى كادت تصبح جزءاً منها ،وطالت الساعات وتذكر انه قرأ يوماً قصة الشيخ والبحر –لأرنست همنغواي بعد أن شاهدها شريطاً سينمائياً ،فقال :لن أكون أضعف إرادة وأقل صبراً وصلابة من ذلك العجوز ،وطالت به الساعات أكثر من دهر ….سمع استغاثات المستغيثين ،وأنّات الجرحى ،وحشرجات المذبوحين .
حفظ أسماء قادة مجموعات ارهابية لم تكن في الحسبان :أبو قتادة السعودي ،أبو حمزة الليبي ،أبو عمر الشيشاني ،أبو بكر التونسي ….مرّ أمامه شريط حياته بطيئاً سريعاً …وأمام كل مشهد كان ينمو في أعماقه شعور قوي يقول له :تابع صبرك وصمودك ،اشمخ في مواجهة الموت فلم يحن وقته …
بعد ثلاث ليال هبطت عليه ،ساد صمت رهيب فانتظر هبوط الليلة الرابعة تطاول ،نظر من نافذة المطبخ فلم يرَ أحداً ولم يسمع صوتاً ،فتطاول ثانية ودخل من النافذة ،الدماء ترسم على الأرض والجدران صوراً مشوهة لبشر رائعين ،كان يسير على رؤوس أصابعه التي تيبست فوق أنابيب المياه ،نظر إلى الشارع فلم ير أحداً ،نزل بحذر شديد ولم يحدق في أبواب الشقق المفتوحة ،هو يريد الخروج من –عدرا العمالية –سالماً .
ولذلك انفتحت نافذة ضوء في نفسه عندما لمح أضواء السيارات على طريق دمشق –حمص فانطلق عبر وادٍ صغير باتجاه الطريق وعندما وصله أدرك أنّ دمشق أقرب بكثير مما تصوّر ،وأنّ قاسيون أعلى مما كان يظن ،وأنّ الذئاب والضباع تعيش وتموت في جحورها وإن نهشت أحياناً لحوم الآمنين …!!

د.غسان لافي طعمة

المزيد...
آخر الأخبار
في ختام ورشة “واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة”.. الجلالي: الحكومة تسعى لتنظيم هذه... سورية: النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الج... فرز الخريجين الأوائل من المعاهد التقانية إلى عدد من الجهات العامة أفكار وطروحات متعددة حول تعديل قانون الشركات في جلسة حوارية بغرفة تجارة حمص بسبب الأحوال الجوية… إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه الملاحة البحرية مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا ب... رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من القطاعات القبض على مروج مخـدرات بحمص ومصادرة أكثر من 11 كغ من الحشيش و 10740 حبة مخـدرة "محامو الدولة "حماة المال العام يطالبون بالمساواة شراء  الألبسة والأحذية الشتوية عبء إضافي على المواطنين... 400ألف ليرة وأكثر  سعر الجاكيت وأسواق الب...