قال الشيخ لابنه : يابني عش عصرك ، وكل بملعقتك ، وحافظ على هويتك من التزوير ، ولكن حذار أن تمزق صورة جدك ..
فانحنى الابن وقال : ياأبت ! صورة جدي مصباح طريقي ، ولكن امنحني الحرية ، لا تبخل علي بالحكمة بهذه الروح ، وهذا العقل ، كانت النصيحة وكانت المكاشفة ، وكان الرجاء بمعزل عن الغش والخديعة والمصانعة فلا الشيخ المحسوب على الماضي استسلم لقيود العادة وأدبيات العرف والتقاليد ، ولا الابن وهو ابن العصر تنكر لصعيد المنبت إيماناً منه أن البذرة لا تنبت في الفراغ ، وأن الشجرة لا تستطيل إلا إذا تعمقت جذورها في الأرض ..
كلاهما قرأ المسؤولية بقلب منفتح ، وإدراك بعيد المدى ، وثقة وإيمان ومحبة
ولهذا تراءى لهما الزمان بحاضره وماضيه نهراً متدفقاً دائم الجريان ، له منبع ومصب ولا يمكن فصل قطراته عن بعضها ، أو يعوّل على المنبع دون المصب أو العكس ..
فالعادة في إدراك الشيخ عرض لا ضد تعاند التغيير وكما أنه لا يمكنك الاستحمام بمياه النهر الجارية مرتين في الوقت ذاته ، كذلك لا تكون العادة قانوناً يفرض فرضاً ويتضرع إليه بالأدعية والقرابين .
من صورته أستمد زيت مصباحه، ومن آرائه أستلهم الصوى لمسيرة حياته إدراكاً منه أن التجربة قد تعلو على الثقافة ، وأن المشاورة ظهر وعون ونجاح وبهذا توصلا إلى عنوان الوثيقة القائل :
لا الماضي أيقونة ، ولا الحاضر قاعدة
وإننا لنتساءل : ترى هل بقي هذا الاتفاق حياً ؟ وهل حافظت هذه الوثيقة على محتواها ؟ أم أضحت كوثائق هذا العصر ، حيث يقام لها مهرجان وعرس اليوم ، ثم تنعى وتؤبن غداً ، أو على الأقل تستسلم لنوم طويل .
هل بقي الابن على وعده ، وهل وفى الشيخ بمضمون نصائحه ؟ أم أن مسيرة الزمن وإرادة العصر قد فرضت قوانينها على المتعاهدين معاً ، فأصبحت الوثيقة الذهبية في مهب الريح فلا الابن على الوعد ، ولا الشيخ على العهد ؟!..
علينا ان نعترف ، وفي كثير من الأسف أن كلا منهما أدار ظهره للآخر مرغماً أو بإرادته ، أو استجابة لواقع جديد فرضه العصر دون أن يبقى أمام أحد منهما فرصة للاختيار ..
وتنفرج الزاوية بين الاثنين ، وكلما انفرجت كان للبعد بينهما واقع وسطوة .. وأصبحت الحلبة ميداناً لاتهامات بعضها صحيح ، وأكثرها ظالم ، وغدت أمية الأجداد خارج حدود القراءة والكتابة ، وأمست ثقافة الجيل الجديد خارج إطار الخارطة الإنسانية ..
فالشيخ في رأي الابن (دقة قديمة) والابن في رأي الشيخ (عاق ) بينما بدت صورة الجد باهتة يكسوها الغبار وتفقد كثيراً من معالمها بفعل النسيان والإهمال ..!
والسؤال كبير : كيف ترمم ؟!
كيف تعيد للماضي عباءته وسيفه واعتداده، وكيف تنقذ الحاضر من أصباغه المزيفة وطلائه المقيت دون أن تلزمه بارتداء عباءة الأجداد أو تقلد سيفهم وامتطاء ظهور ابلهم ..؟
خليفة محمد
المزيد...