حدثني حبيب بن لبيب ، عن سيار بن عيار ، قال قضيت فترة الشباب ، بين « الدوير « و» الخراب « . لا يحجبني عن الشمس حجاب ، ولا يصد عني الريح باب فإن رغبت في الاستئناس ، بصفوة الناس ، نزلت « الميماس « فوجدت على مرجه مجالس العلم والأدب ، وأصغيت إلى أهل الفن والطرب ، لا يسترهم عني سقف ولا جدار ، ولا يعليهم عجب ولا استكبار ، قد آثروا الأشجار على الأحجار ، فوجدوا تحت أعطاف الصفصاف ، كل ما يطلبه المصطاف ، من نعيم مواطئ الأكناف ، ومتارف متعددة الأصناف.
ثم اكتسحت النضارة والغضارة، إذ طغت المصانع على المزارع ، وتحولت البساتين إلى جدران وشوارع ، وخربت الطواحين ، وحلت محلها الدكاكين ، واسودت الأعشاب الخضراء ، منذ طفى الزيت على الماء ، فتسمم البني ،بقطرات المازوت والبنزين ،فمتى نخلص الميماس من هذه النفايات.
قلت عافاك الله ، أمن أجل أعشاب ، اعتلقتها أو شاب ، ونباتات أصابتها أوصاب نغلق المصفاة والمصنع ، لنحمي البقدونس والنعنع ؟ وهل تقاس الحضارة المعقولة المقبولة ،
( بالفتوش والتبولة )؟ نحن أحوج منه إلى السردين ، وعلى تشغيل المعامل أحرص منه على حماية المشاتل ، إن الحضارة اليوم صناعة وتجارة ، لا زراعة ونضارة ، قال : ويحك …!! اين حبك لحمص يا حبيب ، وأين لبك يا ابن لبيب ، الحضارة أن تجمع الجانبين ، وأن تظفر بالحسنيين تنقل المصانع إلى البلاقع ، وتبقي المزارع حول المناقع ، فتصنع وتصدر، وتزرع وتثمر ، فلا تخنق الأشجار بالقتار ، ولا تطلق الأوضار على الثمار .
قلت : سامحك الله ، وبلغك ما تتمناه ! أنا أحرص أشد الحرص على حماية حمص ، لكنني تهديت بالفكر ، واستفتيت أهل الذكر ، فقالوا المصنوع الجامد كالمزروع الحيّ ، كلاهما يحتاج إلى ري ّ.
فالصناعة بلا ماء ، كالزراعة في الصحراء ، كلتاهما إلى فناء .
حكّ سيار رأسه بأظفار ، كأنها أسنان منشار ، ثم قال بعد تذكر طال أمده ، وإثر تفكر ، تأخر مدده ، ننقل حمص من الميماس إلى المنبع ، أو ننقل المصانع ، فتنجو حمص من الأوصاب ، والأوضار تجري مع الماء ، والأقذار لا ترجع إلى الوراء . قلت : الثانية أوفى بالغرض وأنفع ، وأشفى من المرض وأشجع قال : إذا لقيت من يسمع ، ثم يلبي ويصدع قلت : هل ما تقول وأنا إلى المسؤول الرسول فجمجم وتردد ، ثم نظم وأنشد :
لا ترشف الماء
ولا الهواء فأنف الجو مزكوم
ولا يغرنك ماء ، فوقه شجر
ألا ترى قاطني ( قطينة ) اهترأت
من الهواء رئاهم والخياشيم
وإن تثاءبت المصفاة قلت : غزا
( حمص ) من السحب ( الكراث ) والثوم
فإن تنسمت ؟ فالأنسام خانقة
وإن تكممت أردتك الأكاميم
إذا تفاءلت بالميماس ملتمساً
بعض الجمام تبدى وهو مشؤوم
/فالمرج صار«كراجاً » أرضه عجنت /
بالزيت والشجر المحموم ملجوم
لهفي على «قشق» جدرانه قصب
/والسقف بالحور والصفصاف مركوم
أبعد ما كنت يا ميماس تغرقني /
صارت تشكّى من الضحل العلاجيم
د. غازي مختار طليمات
المزيد...