في العام 1949م كنتُ تلميذاً في مدرسة « الخالديّة» الأهليّة الخاصّة، وكانت من المدارس الابتدائيّة الشهيرة في حمص، ولم تكنْ ثقة النّاس قد ترسّخت بالمدارس الرسميّة لأسباب ليس هذا مكان إيرادها، وكان من أساتذتنا ماهر عيون السّود رحمه الله، وكان من دروسنا في الصفّ الرابع شيء يُشبه المسرحيّة عن حياة بلال مؤذّن الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، وأراد الأستاذ ماهر أن يرينا شيئاً من عالم التمثيل، فاختار شخصيات ماورد في الدرس، والنصّ يصوّر بعض تعذيب أميّة بن خلف لبلال يوم كان عبداً، وأعلن إسلامه، وكان المشهد يمثّل تعذيبه لإجباره على العودة إلى عبادة الأصنام، وهو يقول : « أحد..أحد».
كانت المرّة الأولى التي نشاهد فيها شيئا يقترب من المسرح، وقام بالأدوار تلاميذ من الصفّ ذاته، وكان عيون السود قد وجّههم كيف يؤدّون أدوارهم، كان شيئا أثار دهشتنا.
في ذلك الزمن أيضا كان أوّل فيلم سينمائي شاهدتُه، فقد أخذنا والد أحد أصدقائنا، وكان من المنعَمين قياسا لأهل ريف ذلك الزمان،..أخذنا أنا، وابنه، وأبناء عمتي، وكان معنا، وحضرنا فيلما لاأذكر من ممثّليه إلاّ صباح، المطربة المشهورة، بعدها بدأت أتعرّف على السينما، وحين تعطيني والدتي ثمن البطاقة أكاد أطير من الفرح، وأكثر ماكنّا نذهب إلى سينما «الفردوس»، وسينما «فاروق»، وقد امّحت آثارهما فيما محاه تطوّر العمران، وهما تعدّان شعبيّتين، إذ يستطيع أمثالنا أن يحضر الفيلم بربع ليرة سوريّة، وإذا تبحبح اشترى سندويشة فلافل بعشرة قروش، وأحياناً يخرج بعد عرض الفيلم من يقدّم مشاهد مسرحيّة، وما زلت أذكر أنّ الممثّل المعروف « سعد الدّين بقدونس»، وكان شابا، قد بقي في حمص لعدّة أشهر، وهو يقدّم عروضه على مسرح سينما الفردوس، كما تعرّفنا في ذلك المسرح على المطربة سميرة توفيق التي اشتُهرت فيما بعد، وكان من المألوف بعد بعض العروض أن تصعد إلى خشبة مسرح السينما فرقة موسيقيّة، وتبدأ العزف والغناء، وتخرج راقصة لترقص،
لم أكن أعرف إلاّ ماسمعته من أغان في الريف، هنا الأمر مختلف، مجموعة آلات، ولقد كنت أشعر بفرح غامر عند سماع عزف لاأعرف شيئا عنه، كانت أحاسيسي تسافر في عوالم لا أعرفها، وهذا ما أدركْت بعد سنوات طوال أنّه يُسمّى في الموسيقا « دولاب البيات»، وذكّرني هذا السّرد بما شاهدتُه في أحد عروض « كركوز وعيواظ،» برجل شديد السّمرة، يلبس الثياب العربيّة والشروال، ويضع طربوشا على رأسه ويحتضن آلة العود ويغنّي « الموّال»، ياإلهي هذا غير العتابا التي عرفتُها وانا في القرية، وأرجّح أنّ اسمه « بكري العبد» وكان من المعروفين في سهرات حمص الجميلة،
دور السينما الأخرى كـ فريال» و» اوبرا» كانت للأكابر بلغة ذلك الزمان، وثمن البطاقة فيها يصل إلى ثلاثة أرباع الليرة السوريّة،
بعد زمن، حين شببنا، وصار لنا ميول سياسية، وأدبيّة، ونحن في المرحلة الاعداديّة، تعرّفنا إلى ماهر عيون السود كواحد من أبرز الممثلين في حمص، ورفيق رحلته محمود طليمات، وعدد من الأسماء تغيب عن ذاكرتي الآن، وشاهدنا المسرح الجاد الملتزم حيث قّدِّمت مسرحيات منتقاة على خشبة المركز الثقافي القديم، ومعظمها من تأليف الكاتب والممثّل والمخرج المسرحي مراد السباعي،وتتالت الأيام، وتراكمت السنوات، واتّسعت مداركنا، وفُتحتْ آفاق ماكنّا نعرف عنها أيّ شيء.
ليست الغاية من هذه الكتابة مجرّد السّرد، بل لها أكثر من هدف ، ومن جملة أهدافها رسم صورة عن تلك الأزمنة، لإجراء شيء من المقارنة بين ماكنّا عليه وما صرنا إليه، للإشارة الضمنيّة إلى ضرورة الدفاع عن كلّ مكسب تحقّق، والوقوف بحزم في وجه كلّ من يريد إرجاع العجلة إلى الوراء…