مضى أسبوع على وجودها هنا،في بيت أهلها، تنظر من النافذة الضيقة ، فترى الحديقة العامة تمور بالحركة ،وقت انصراف التلاميذ من المدرسة المجاورة ، الذين يدخلون الحديقة ليمضوا فيها بعض الوقت لاهين، قبل متابعة طريقهم إلى منازلهم .
ثمة رجل وامرأة ، يجلسان على مقعد خشبي ، يتناجيان ربما يكونان عاشقين أو عروسين .. يتعلق نظرها بهما ..ربما يقول لها عبارات الغزل والحب ، و ربما يقول لها إنه سيجلب لها لبن العصفور، إذا ما طلبته ..!!وسيبني لها قصراً في قادمات السنين، أو إذا كان شاعراً فربما يقول لها إنه سيكتب لها ديواناً متفرداً في الغرام لم يكتبه شاعر من قبل ..!!.
اختلطت صورة العاشقين في الحديقة ، بصورة استحضرتها من ذاكرتها ، لها ولمحمود ،قبل أشهر قليلة ، حيث كانا في شهر العسل الذي جاءت بعده أشهر “النق” والعوز.
عندما خرجت من البيت الصغير المستأجر ..قالت له:
” ذاهبة إلى منزل أهلي.. لن أعود حتى تحقق ما وعدتني به..!!”
يقول لها بلهجة هي مزيج من الدهشة والتوسل:
-” لا.. لا تذهبي .. سأحزن كثيراً.. لا أستطيع العيش بدونك..لا بدّ أن يأتي الفرج بعد الضيق..!!”.
كلماته لا تزال تطرق أذنها.
فهل تراها تسرعت في قرارها .. وماذا في بيت أهلها؟!!
غرفة نوم صغيرة تتقاسمها مع شقيقاتها الثلاث فبالكاد تجد مكاناً لتضع فيه فراشها القديم الممزق .
أما شقيقاتها فكل واحدةٍ منهن، تحلم بفارس ، يأتي ليأخذها على جواد أبيض إلى عالم الخيال والحب..!! غير أن حكاية “حرد” أميرة ،شقيقتهن الكبرى، كبح جماح أحلامهن بعض الشيء.!!
تقول إحدى رفيقاتها ، بشيء من الحسد الممزوج بالشماتة :
-كأنك لم تصدقي أن رجلاً جاء يطلب يدك .. وافقت بسرعة مثل فراشة يجذبها ضوء الشمعة ..!!”.
وتلوي عنقها بدلال وتنظر نحو الأعلى لتكمل:
-” من ناحيتي.. إما زيجة فاخرة.. أو أبقى حرّة طيلة العمر ..!!”
تعود ذاكرة أميرة لتنبض بصورة محمود وكلماته المبعثرة لها قبل حردها :” سأعمل عملاً إضافياً بعد الدوام ، معي شهادة سوق عامة ..!!”
لكنه يستدرك فيقول:
“لكن ليس لائقاً بي هذا العمل .. معلم مدرسة ..وسائق عمومي..!!”
تنتفض بوجهه متهكمة:
” ربما تعتقد أنك أستاذ جامعة..معلم مدرسة ابتدائية ..!!
أو تعتقد أنك” مأمور ضرائب” مثل أخي الذي لديه بيت و سيارة
و مزرعة و يقول لزوجته اطلبي ما تريدين يأتيك في الحال
يرد التهمة فيقول :
ربما يكون شقيقك مرتشيا ً و فاسدا أنا لست من هذا النوع … يلعلع صوتها : لاأسمح لك أن تذكر أهلي بكلمة واحدة نابية..!! يأتي صوت أمها ليقطع تداعياتها : ” أميرة هل نسيت تنظيف الصحون و الأواني في المطبخ ؟هل نسيت أن تمسحي غرفة الجلوس و لا تنسي أن تكوي ملابس أبيك عندما تأتي الكهرباء ”
تفكر … تكاد تحتج لكنها لا تفعل ذلك فلماذا أمها لا تطلب من شقيقاتها أن يقمن بهذه الأعمال أتراها تشعر بالضيق من أميرة و تريدها أن تعود لبيت زوجها “
و لكن هل تعود.. كيف تعود ؟! وهو لم يأت ليسترضيها ؟! لاسيما وأنه يمر من أمام منزل أهلها في ذهابه وإيابه إلى المدرسة ؟!
ما أقسى قلبك يا محمود ..!! أنسيت أميرة التي كتبت لها عشرات القصائد .. وقلت إن عينيها ليس للونهما مثيل ..؟!!
أمها كانت صريحة معها .
أريد أن أرتاح من هم شقيقاتك… أدعو الله – كل وقت- أن يجدن أزواجاً أولاد حلال .. فما بالك تتركين بيتك وتحردين؟!..”
تعود أمها لتذكرها بما طلبت منها
تنهض أميرة ترتدي ثيابها تحضر حقيبة ملابسها الصغيرة .
تنتظر على الشرفة تراه قادماً من بعيد … تفتح الباب وتنزل الدرج :
” إلى أين .. أميرة..؟!!
يتلاشى صوت أمها
ثمة رجل عائد من عمله.. تعترض طريقة .. تلتقي عيناها بعينيه .. تبتسم يبادلها الابتسام ، تضحك يبادلها الضحك.
” اشتقت إليك يا محمود ..!!” تهمس
” وأنا كذلك اشتقت إليك يا أميرة ..!!”
يسألها بلهفة وهو يحدق فيها :
-” كيف حمودي.. ألا يزال يلعب كرة قدم في بطنك؟!”
-” مشتاق لأبيه .. كيف تنسانا هذه المدة ؟!!”.
يهمّ بمعانقتها .. تبعده عنها :
“أنسيت أننا في الشارع..؟!!”
يتمتم :
أيا عودة للدار ما أحلاها ..!!”
بجانب بعضهما البعض ،يمضيان إلى المنزل ، وثمة شيء يتحرك ، بفرح ، في أحشاء أميرة .
عيسى إسماعيل