باخص : نزار قباني مدرسة شعرية تنهل من معينها الأجيال
ألهم نتاج نزار قباني الباحثين والنقاد ليغوصوا في إبداعاته الشعرية والنقدية والنثرية على حد سواء . فشعره بحر غاص فيه الكثير من النقاد ليستخرجوا أثمن اللآلئ ، وقد شغل العالم العربي الأدبي من شرقه حتى مغربه …بهذه العبارات بدأ الأديب نبيل باخص محاضرته في قاعة سامي الدروبي في مديرية الثقافة حول «نزار قباني حياته وشعره» بمناسبة مرور الذكرى الواحدة والعشرين على وفاته في 28/4/ 1998وأضاف : ولد نزار قباني في 21أذار 1923في بيت من بيوت دمشق القديمة، والده توفيق قباني أحد الرجال الوطنيين الذين مولوا الحركة الوطنية، وكان نزارقباني الولد الثاني بين أربعة صبيان وبنت ،و لم يكن والده غنياً وإنما من أسرة دمشقية متوسطة الحال، مدخوله من معمل حلويات يملكه، كانت مدرسة نزار الأولى الكلية العلمية الوطنية في دمشق، وحصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق 1945، وأتقن اللغة الإنكليزية والفرنسية ، لكنه لم يمارس مهنة المحاماة ولم يدافع في حياته إلا عن الشعر والجمال ، كانت بدايته مع الشاعر خليل مردم بك وتأثر بالشاعر بشارة الخوري و إلياس أبو شبكة …
مرحلة بلقيس
تحدث المحاضر باخص عن حياة نزار قباني الادبية من زاوية حياته العائلية والاجتماعية فقسم حياته إلى مراحل بحسب علاقاته الاجتماعية وأعطى لزوجته العراقية الثانية مرحلة سماها مرحلة بلقيس ,حيث تعرف عليها الشاعر قباني عام 1969 عندما ذهب إلى بغداد، ليلقي قصيدة ، فألتقى بقصيدة ثانية هي بلقيس وتزوجها وأقام معها وحدة بين قلبين عربيين .
وفاة ابنه توفيق
ثم تطرق المحاضر إلى حياة قباني الحافلة بالأحداث من خلال عمله الدبلوماسي وشعره وعرج على الأثر العميق الذي تركه في نفسه جراء فقده لابنه توفيق وهو في ريعان شبابه واستشهد المحاضر بكلام نزار قباني في أحد كتبه واصفاً حاله بعد وفاة ابنه :
(في العاشر من شهر آب 1973مات ابني توفيق في لندن وكان شاباً وشعره كلون حقول القمح في تموز، وكان توفيق أميراً دمشقياً جميلاً) وقد كتب أكثر القصائد فجائعية في وفاة ابنه ومن قصيدته المعنونة ب «إلى الأمير الدمشقي توفيق»: مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات.. ومقصوصة ، كجناح أبيك، هي المفردات فكيف يغني المغني؟ وقد ملأ الدمع كل الدواة.. وماذا سأكتب يا بني؟ وموتك ألغى جميع اللغات.
عشق دمشق خالد في شعره
ثم أفرد المحاضر جزءا كبيراً من محاضرته ليتحدث عن العشق الأزلي بين نزار قباني ودمشق مسقط رأسه وقد عرف عنه أنه حين كان يتطرق إلى ذكر دمشق يتغير لونه وتتغير نبرة صوته، وكأنه يتحدث عن محبوبة فريدة ، ومعشوقة لا مثيل لها، كان نزار دائما يتدثر بحنان دمشق ويرى بعيونها ، ويطاول عنقه عنان السماء زهواً بمجدها ، برغم أنه طاف الدنيا شرقاً وغرباً بقيت معشوقةٌ وحيدة له هي دمشق، ونرى ذلك واضحاً جلياً في قصيدته «من مفكر عاشق دمشقي» التي ألقاها في مهرجان الشعر بدمشق1971 : فرشت فوق ثراك الطاهـر الهدبـا فيا دمشـق… لماذا نبـدأ العتبـا؟ حبيبتي أنـت… فاستلقي كأغنيـةٍ على ذراعي، ولا تستوضحي الســـببا أنت النساء جميعاً.. ما من امـرأةٍ أحببت بعدك.. إلا خلتــــها كـذبــــــــا تتحول دمشق إلى محبوبة يطلب منها الشاعر أن تستلقي كأغنية على ذراعه وهي صورة غير مسبوقة فهي صورة نزارية إن صح التعبير تفرَّد بها لتغرد المحبوبة عنده أيضاً ،إن دمشق بالنسبة لنزار تمثل تاريخاً لا يمكن أن ينسى، لذلك نرى نزار يتذكر دائماً ذكريات طفولته في دمشق القديمة ،فيقول : يا شام إن جر احي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن و التعبا وأرجعيني إلى أسوار مدرستي وأرجعي الحبر والطبشور و الكتبا
نزار في نكسة حزيران
وتحدث المحاضر نبيل باخص عن أثر نكسة حزيران في شعر قباني إذ ألهبت القضايا العربية ذاكرته ووجدانه كما حتضن الشاعر قباني قضية العرب الأولى قضية فلسطين, فقد كان للشاعر وقفات مشرفة منذ اغتصاب الكيان الصهيوني فلسطين .. ثم أشعلت نكسة حزيران فتيل القصائد الرافضة فأصدر مجموعة شعرية حملت عنوان «هوامش على دفتر النكسة» فند فيها الشاعر أسباب خسارة الحرب على شكل قصائد تغلي غضباً وتلوح بارقة الأمل حين تبدأ العمليات الفدائية في أرض فلسطين ، ويبدأ الكفاح المسلح ضد عدو لا يفهم من اللغات إلا لغة القوة والسلاح، فيهلل نزار لهذه القفزة النوعية فيزف بشراه إلى القدس الحبيبة : يا قدس يا مدينتي يا قدس يا حبيبتي غداً غداً سيزهر الليمون …
ناصري الهوى
وتحدث المحاضر عن القصيدة التي رثى فيها نزار قباني الزعيم العربي جمال عبد الناصر وقد تلونت بالغضب والحزن . كان نزار يدق أبواب الزمن بكلتا يديه الداميتين بغضب وتمزق وحزن ، بحثاّ عن خلاص ، حتى كانت حرب تشرين التحريرية التي ألهمته العشرات من القصائد منها «ملاحظات في زمن الحب والحرب» .
نزار قباني وكبار المطربين
ثم تطرق المحاضر لقصائد نزار المغناة بأصوات كبار المطربين العرب فقال: أول من غنى قصائده أبو نديم الحلبي من ديوانه «قالت لي السمراء» قصيدتي «زيتية العينين» و«اكتبي لي » وضاعت الأغنيتان لعدم التسجيل ، ثم تتالت الألحان حيث لحن محمد عبد الوهاب «لماذا تخليت عني» بصوت زكية حمدان ، ثم لحنَّ نجيب السراج قصيدة «بيت الحبيبة » .. أما الأغنية التي حصلت على انتشار واسع «أيظن» لحنها عبد الوهاب وغنتها نجاة الصغيرة أيام الوحدة بين مصر وسورية ، ثم لحن نجيب السراج «لا تسأليني هل أحبها؟»، وعاد ولحن عبد الوهاب ثلاث أغان لنجاة الصغيرة «ماذا أقول له» عام 1965،»إلى حبيبة» عام 1972و «أسألك الرحيل» في 1990، ولحن لأم كلثوم «أصبح عندي الأن بندقية »، ولحن رياض السنباطي عند وفاة جمال عبد الناصر مرثية بعنوان «رسالة إلى جمال عبد الناصر» غنتها أم كلثوم ولكنها لم تأخذ حظها بالانتشار … ولحن الموجي لعبد الحليم حافظ رسالة من تحت الماء ومطلعها: «إن كنت حبيبي ساعدني كي أرحل عنك – أو كنت طبيبي ساعدني كي أشفى منك» فنجحت نجاحاً باهراً وهذا النجاح جعل الموجي يلحن قصيدة نزار المشهورة «قارئة الفنجان» وكان لها نصيب كبير من النجاح ، والتقى نزار مع محمد سلطان الذي رجاه أن يعطيه أغنية لزوجته فايزة أحمد فأعطاه « رسالة امرأة حاقدة « وكانت أجمل ما لحنَّ… وقد أعجب نزار بكاظم الساهر فسمح له أن يلحن ما يشاء من قصائده فأختار منها كاظم أجملها وغناها …
المرأة في شعره
وبين المحاضر أن أي دارس لشخصية نزار الأدبية لا بد سيتطرق لعلاقة الشاعر بالمرأة إذ لقبه النقاد بشاعر المرأة وشاعر الحبّ وشاعر الياسمين حيث أصبحت قصائده زوادة العاشقين ، تعبر عن أحاسيسهم وعواطفهم ومن اهم قصائده الجميلة في الغزل «أحبك» و»ثوري أحبك أن تثوري» وقصيدة «نهر الأحزان»…. ثم ختم المحاضر بالقول : في ذكرى وفاته لابد أن أوكد على الفراغ الذي تركه الشاعر نزار قباني في الساحة الشعرية وعلى الرغم من تعدد الآراء حول مواقفة , سيبقى شاعر الحب والوطن وسيبقى موهبة شعرية عريقة وسيبقى شعره فواحاً كياسمين دمشق تتوارثه الأجيال ، وسيظل شعره شامخاً شموخ قاسيون فهو صاحب تجربة شعرية رائدة وعلامة مميزة من علامات الشعر العربي المعاصر ومدرسة شعرية كبيرة تنهل من معينها الأجيال .