المعادل الموضوعي في الأدب بشكل عام هو الأداة البلاغية والإبداعية التي يستخدمها الأديب حتى لا يقع في فخ التقرير أو الإخبار أو التعبير المباشر عن العاطفة ، وبدلاً من المباشرة ، يبحث الأديب عن صورة حسية ، تجسد العاطفة ، وتعبر عنها أي تعادلها ، ومن هنا يصح التعريف الأكاديمي للأدب بأنه : محاكاة الواقع بطريقة فنية راقية .
وفي روايته ( جسر على نهر جاف ) يواصل الروائي ( عبد الغني ملوك ) ارتياد آفاق جديدة ، واحتلال مساحات أخرى ، ودفع حدود معرفية ثابتة نحو الوصول إلى الملاذ الإنساني الآمن ، المغتسل من أدران الظلم والقهر والشرّ والفساد .
وقد اتخذ من قرية ( كفر الرمان ) معادلاً موضوعياً للمجتمع العربي عامة ، والمجتمع السوري خاصة هذا المعادل يمور بالتناقضات الفاقعة ، والتباينات الصارخة ، بين قوىً ، تمثل الشرّ المطلق أمثال بيدق الشيطان الملقب بالغريب واسمه ( عقيل الأعرج ) وابنه ( جانتي ) وولي عهد الغدر والخيانة ، وقوىً ضعيفة تمثّل بنقائها الإنساني بؤراً للضوء والخير أمثال ( نمير ) حامل لواء المثل العليا ، والقيم الرفيعة والمغترب ( عاطف ) الذي نذر نفسه وثروته الطائلة لخدمة مجتمعه و( فارس ) الشاب الذي يترسم خطا أبيه على طريق التضحية والنزاهة والإخلاص في القول والعمل للنهوض بالمرافق المشلولة من زوايا المجتمع الواعد .
ويسود القرية فكر خرافيّ ، يعتمد على التفسير العاطفي الخاطيء ظواهر الطبيعية ، والموروث الشعبي الذي ينضح بالخرافة والشعوذة ، ما يلعب دوراً مفصلياً في بقاء القرية رهينة للفقر والتخلف والفساد ، ثم تشهد القرية أحداثاً مروعة ، تمثلت بمقتل ( عمران ) وشقيقه ، واغتصاب وقتل ( بشرى ) زوجة ( عمران ) واغتيال ( نمير ) وتتفاقم الأمور بشكل مأساوي. وفي هذا الحقل المترامي الأطراف من أشواك الجهل وحنظل التخلف ، تبرز وردة تشع بالوعي والعطاء ممثلة بالشاب ( فارس) الذي يحاول بالتعاون مع رموز الخير في القرية الى الدعوة الصادقة لمحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية مؤكدين على توهج قيم التقدم والتطور والازدهار والتغيير نحو الأفضل ، ونبذ الخرافات واعتماد التسامح والإخاء والعدالة والمساواة أعمدة للمجتمع الجديد ثم ينطلق هذا الفريق الواعي في القرية إلى التطبيق العملي لما يؤمنون به عن طريق نهضة جبارة عمرانية وزراعية وصناعية ، يعم خيرها على أهل القرية جميعاً ، بالإضافة إلى الدعوة الجريئة لتحرير المرأة من قيود التعسف والظلم ، وتسليحها بالعلم والعمل لتتحرر فكرياً واقتصادياً ، وترك التواكل والكسل والخمول ، وأخيراً زواج ( فارس ) من محبوبته ( حنان ) بعد تفوقهما بامتحان الشهادة الثانوية ، وسفرهما إلى الجامعات ( السويسرية ) ببعثة على نفقة وزارة التعليم العالي ، وذلك لدراسة ( الفيزياء الذرية ) لخدمة وطنهم في هذا الاختصاص النادر . بهذه الرؤية البانورامية ، وظف الروائي ( عبد الغني ملوك ) رموزاً عديدة في روايته هذه، وكل رمز منها حافل بالظلال والألوان ، كما أغنى روايته بالكثير من الحقائق والمعطيات التي تضرب في تربة الواقع مما يدل على شعور مرهف ومدروس لما يعانيه مجتمعه من انحرافات حادة وتشققات عميقة ، تعوقه عن الانطلاق نحو المستقبل المنشود ، والبديل الموضوعي ، وذلك بدك قلاع الرجعية ، ومستنقعات التفسخ الاجتماعي وإحلال قيم الحق والخير والجمال محلها . أما عن الشكل الفني للرواية ، فقد اعتمد على المنولوج الداخلي وتيار الوعي ، والسيرة الذاتية لبعض شخصيات الرواية ، والمخزون التراثي والحوار البناء والخطابة التي نحت منحى التبشير الايجابي ، وكانت أدوات السرد لديه تعتمد على الجمل الطويلة والقصيرة بأسلوب سهل ممتنع ، وتستعين أحياناً بالخيال والاستعارة والكناية كقنوات فنية لتوصيل الأفكار إلى القارىء بوضوح وجزالة.
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...